محاضرة آية الله العظمى الشيخ الوحيد الخراساني قبل حلول شهر المحرم الحرام

كما عود تلاميذه في كل عام أن ينبههم وخصوصا من يذهب الى التبليغ والارشاد إلى قيمة أيام المحرم وكيفية استثمارها، ألقى أمس الاثنين محاضرته القيمة في ذلك فأحببت نشر ما استفدته منها لكي يستفيد منها بقية المؤمنين لا سيما الخطباء والموجهين، قال:

بما أن عاشوراء على الأبواب وسوف يتوفق جماعة منكم للذهاب للإرشاد فعليهم أن يتوجهوا لهذا الأمر:

على الإنسان أن يختار في جميع أموره ما هو الأحسن بمقتضى حكم العقل وما دلّ عليه النقل، قال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (18) سورة الزمر

هؤلاء هم من استحقوا بشارة الله تعالى؛ إذ قال تعالى قبل هذه الآية: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ . الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ ..} (17) سورة الزمر

ولنسأل: ما هو الأحسن بقول مطلق؟

والمرجع في الجواب لابد أن يكون الكتاب والسنة فقط لا غير، فإن من رزق البلوغ العلمي لا يكون مرجعه إلا كلام الله تعالى وكلام أرباب العصمة، ولا يرجع لغير المعصوم من الخطأ. نعم من لم يصل إلى هذه الدرجة من البلوغ العقلي والعلمي يرجع إلى كلام هذا وذاك.

أما القرآن فقد بيّن لنا ما هو الأحسن بقول مطلق حيث قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (33) سورة فصلت

فالأحسن بقول مطلق ـ بمقتضى هذه الآية ـ هي الدعوة إلى الله تعالى، فعلى من يوفق للسفر للإرشاد في هذه الأيام المقبلة أن يختار العمل الأحسن الذي بيّنه الله تعالى فإن أحسن القول قوله تعالى، ولقد قال: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ}.

ويأتي هنا سؤال آخر وهو: ما هو الطريق للدعوة إلى الله؟

وهنا لابد من أخذ الجواب من الله تعالى أيضاً، ولقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (21) سورة البقرة

لاحظوا ودققوا لقد جاء بالمدعى أولاً: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ}، ثم أعقبه بالدليل: { الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (22) سورة البقرة

آيات عظيمة ينوء بثقلها الإنسان، والعمر أقصر من أن نتوقف في جملة من جملها، ولننظر إلى أنفسنا ـ تجاه الرب العظيم ـ ما كنا وإلى أين صرنا؟ ولنرجع إلى أنفسنا قبل مائة سنة فأين نحن حينذاك؟ لابد لنا ـ حين نقرأ القرآن ـ من التأمل في آياته، قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا} (1) سورة الإنسان.

( ربكم) في الآية السابقة ( اعبدوا ربكم ) تفسر في هذه الآية: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (2) سورة الإنسان

فلننظر لأنفسنا عندما كنا نطفة، علقة، مضغة، وتقلبنا في هذه المراحل من مرحلة إلى أخرى، من نطفة قذرة إلى أن صرنا إلى هذه الحال، لنتأمل في العين فقط وكيفية خلقها وتركيبها الدقيق فهو يكفي.

لنسير في الآفاق وفي الأنفس ونتأمل فيهما فقد قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (53) سورة فصلت

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ}، اقرأ قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (22) سورة البقرة.

وتأملوا في الأنفس{ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (6) سورة الزمر

ويتحول من حال إلى حال: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (14) سورة المؤمنون

فعليكم أن تتوجهوا إلى الله وأن تدعوا الناس إلى ذلك، استفيدوا من هذه الأيام بما يسعكم أن تستفيدوا منها.

ما هو الطريق للدعوة إلى الله؟

لابد من أخذ ذلك من الله تعالى، وأنتم بحمد الله ممن تكفيه الإشارة فلنقتصر على ذلك، ولنحذف جميع التصورات التي تتوارد على الأذهان، الطريق هو:

{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (48) سورة الأنعام.

فمجالسكم تتلخص في كلمتين:

1_ التبشير.

2_ الإنذار.

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (45) سورة الأحزاب

طريق الله هو البشارة بالأعمال الصالحة والإنذار من الأعمال الطالحة، ولتكن مجالسكم ـ ما دمتم في هذا السفر المبارك ـ مشتملة على ثلاثة أمور:

1_ آية محكمة.

2_ فريضة عادلة.

3_ سنة قائمة.

يعني عليكم في هذه الأيام العشرة أن تربوا الناس في المنطقة التي تبلغون فيها على أمور ثلاثة:

1_ آية محكمة، وخلاصتها بيان أصل الأصول أي المبدأ والمعاد والنبوة والإمامة.

2_ فريضة عادلة، وهي بيان الحلال والحرام والفرائض الإلهية، فلابد لكم من تبيان حدود الدين للناس.

3_ تحبيب الأخلاق للناس وتربية نفوسهم على الأخلاق الحسنة.

وعليكم أن تقرأوا الروايات التي تخاطب الناس وتبين علاجهم وكيفية تزكيتهم وتعويضهم عن الخلق السيء بالخلق الحسن، ويدور ذلك مدار الفطرة وخطابها، وتعود الفطرة للإنسان بكلام الله تعالى وكلام من انتسب إليه، فالمقلب لقلوبهم والمؤثر فيها هو القرآن وكلمات أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام، ويكفيكم أن تقتصروا على ذلك، فإن الدعوة إلى الله التي هي أحسن القول تتلخص في أمرين: الله تعالى، طريق الله.

أما بيان معرفة الله فقد تقدم، وأما طريق الله، وسبيله وصراطه فهو الذي قتل يوم عاشوراء، ونحن أقل من أن نتصور عظمة القضية! سمعنا شيئاً ولكن هل فهمناه؟ هذا ما يبقى تحت دائرة التأمل.

إن الأمر عال جداً، وعميق جداً بحيث يقف فرس من هو أهل عن تصوره فضلاً عنا الذين لم ندخل تحت سلم الحساب!

ما هو ذلك اليوم؟ وماذا حصل فيه؟ وما هو مبدأ العمل وما هو منتهاه؟

هذه مباحث مرتبطة بسبيل الله الأعظم، ويمكن لنا أن نعرف شيئاً عن الأصل بمعرفة الثمرة، فإن طريق الوصول إلى المطالب دليلان: طريق الإن(1) ، وطريق اللم(2)، وعندما نريد أن نفهم الأمر نحتاج إلى أن ننظر في الأثر المترتب على ذلك العمل طبقاً لبرهان الإن لنعرف عظمة ذلك العمل، فلنذهب لما يرويه الصدوق في ثواب الأعمال ص 93 قال:

حدثني محمد بن الحسن قال حدثني احمد بن ادريس عن محمد بن احمد بن الحسين عن محمد بن إسماعيل عن الحيري عن موسى بن القاسم الحضرمي قال ورد أبو عبد الله عليه السلام في أول ولاية أبي جعفر فنزل النجف فقال: يا موسى إذهب إلى الطريق الاعظم فقف على الطريق فانظر فانه سيجيئك رجل من ناحية القادسية فإذا دنا منك فقل له: هاهنا رجل من ولد رسول الله صلى الله عليه وآله يدعوك فيجئ معك .

قال : فذهبت حتى قمت على الطريق والحر شديد فلم أزل قائما حتى كدت أعصي وأنصرف وأدعه إذ نظرت إلى شئ مقبل شبه رجل على بعير، قال: فلم أزل أنظر إليه حتى دنا مني فقلت له: يا هذا هاهنا رجل من ولد رسول الله صلى الله عليه وآله يدعوك وقد وصفك لي.

قال: اذهب بنا إليه، قال: فجئته حتى أناخ بعيره ناحية قريبا من الخيمة قال: فدعا به فدخل الأعرابي إليه ودنوت أنا فصرت على باب الخيمة أسمع الكلام ولا أراهما ، فقال أبو عبد الله عليه السلام من أين قدمت ؟ قال من أقصى اليمن. قال فأنت من موضع كذا وكذا ؟ قال نعم أنا من موضع كذا وكذا قال فما جئت هاهنا ؟ قال جئت زايرا للحسين عليه السلام فقال أبو عبد الله عليه السلام فجئت من غير حاجة إلا الزيارة ؟ قال جئت من غير حاجة ليس إلا أن أصلي عنده وأزوره وأسلم عليه وأرجع إلى أهلي قال أبو عبد الله عليه السلام وما ترون من زيارته ؟ قال نرى في زيارته البركة في أنفسنا وأهالينا وأولادنا وأموالنا ومعايشنا وقضاء حوائجنا قال : فقال له أبو عبد الله عليه السلام أفلا أزيدك من فضله فضلا يا أخا اليمن ؟ قال زدني يا ابن رسول الله قال زيارة أبي عبد الله عليه السلام تعدل حجة مقبولة متقبلة زاكية مع رسول الله صلى الله عليه وآله فتعجب من ذلك فقال إي والله حجتين مبرورتين متقبلتين زاكيتين مع رسول الله صلى الله عليه وآله فتعجب من ذلك فلم يزل أبو عبد الله عليه السلام يزيد حتى قال ثلاثين حجة مبرورة متقبلة زاكية مع رسول الله صلى الله عليه وآله).

هذه المراتب لها سر، وعدد الثلاثين له سر أيضاًَ، وتعبير الإمام عليه السلام في المرتبة الثلاثين بـ( حجة مبرورة متقبلة زاكية مع رسول الله ) يشتمل على خمسة أمور مهمة:

1_ حجة، والحج أمر لا يتكرر في السنة.

2_ مبرورة، ومعنى المبرور هو الخالي من جميع المآثم، وأين يوجد مثل هذا الحج؟

3_ متقبلة، وهذه المرتبة التي أعقبت مبرورة تدع الإنسان متحيراً فإن الله تعالى يقول: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} (37) سورة آل عمران، ولم يقف عند هذا الحد بل قال:

4_ زاكية، والعمل الزاكي هو الذي ترتفع عنده جميع الغواشي.

5_ وهذه هي المرتبة المهمة: ( مع رسول الله )، فإن أمكن رد حج رسول الله (ص) فيمكن رد هذا الحج.

فأثر العمل الذي قام به الإمام الحسين عليه السلام أن تكون زيارة قبره إكسيراً كيميائياً يؤثر هذا التأثير ويقوم بهذا الدور.

هذه زيارة قبره فمن منا يعرف سيد الشهداء؟

نختم الكلام عن ذلك بحديث فيه الكفاية:

ينقل ابن قولويه في كامل الزيارات ص 279 عن مشايخه بسند لا يعتريه الشك ولا يتوقف في الفتوى على طبقه فقيه في أدق المسائل الفقهية وأخطرها كمسائل الدماء فيقول:

[ 439 ] 3 - وحدثني علي بن الحسين وجماعة مشايخي رحمهم الله ، عن علي بن ابراهيم بن هاشم ، [ عن أبيه ] ( 3 ) ، عن محمد بن أبي عمير ، عن عيينة بياع القصب (وبتعبير النجاشي قتيبة)، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : (من أتى الحسين ( عليه السلام ) عارفا بحقه كتبه الله في أعلى عليين ).

يصل القلم إلى هذه الكلمة فتنكسر ريشته! ما هي عليون حتى نصل إلى أعلى عليين؟

هذا ما تجد جوابه في سورة المطففين قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ . كِتَابٌ مَّرْقُومٌ . يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ } (18_ 21) سورة المطففين

من يشهد مشهد العليين هم المقربون، ومن زار الحسين عارفاً بحقه فهو في أعلى عليين، فإذا كانت هذه منزلة من زار الحسين فأين سيكون الحسين؟

اعرفوا الحسين وعرفوه للناس، فلو أن إنساناً بكى دماً على الحسين لكان قليلاً، حقاً لا إدراك لنا ولا فهم، يقول الإمام الثامن عليه السلام: ( إن يوم الحسين أقرح جفوننا )، لقد تجرحت جفون أهل البيت عليهم السلام بكاء على الحسين، فهم يعرفون ماذا حصل في ذلك اليوم، وكيف قتل الحسين عليه السلام.

هذه الشخصية العظيمة محل لخطاب الله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} (27_ 28) سورة الفجر

اللهم صل وسلم على سيد الشهداء وقطب الأولياء وإمام الأصفياء عدد ما في علمك صلاة دائمة بدوام ملكك وسلطانك.

------

(1) يطلق دليل الإن ويراد به الانتقال من المعلول للعلة، كأن تكتشف النار من خلال رؤيتك للدخان.

(2) يطلق دليل اللم ويراد به الانتقال من العلة للمعلول فتستدل على وجود الحرارة بوجود النار