عندما نتحدثُ عن النقد يتبادرُ للذهن جُملةٌ من المعاني، يمكن أن ترتبط بخيطٍ تنتظمُ فيه عملية النقد. فهي أداةٌ تتحركُ بين النص والمشروعاتِ والأفكارِ والرؤى والتجارب. أما نقد الآخر فهو مرتبط بما يحمل هذا الآخر من رؤيةٍ، بما ينتجهُ ويعبُر عنه، بما يمارسهُ ويدعو له، بما يختزنُ في نظرته لذاتهِ، وللآخر الذي هو معادلهُ الموضوعي في الحوار والنقد.
والنقدُ هو استعادةٌ لحالةِ حوار، فلا حوار ما لم يوجدْ نقدٌ، وإذا اختفى النقدُ عن طاولةِ الحوارِ فكيف يكون الحوارُ. وعليه يصبحُ المدخلَ إلى نقدِ الآخرِ هو الحوارُ معه، سواء كان حواراً مباشراً أو غير مباشرٍ، سواء كان عبر المواجهةِ والمكاشفةِ أو عبر استدعاءِ الأفكارِ بوسائلِ التعبير والنشرِ المتعددة. قد تتعدد وسائلُ النقدِ.. وتبقى آلياتُ النقد. ومنهجُ النقدِ هو المعولُ عليه في إعطاءِ العمليةِ النقديةِ توهجُها للبقاءِ قيمةً في سلم التأثيرِ والحضور.
أما هذا الآخر فهو قد يكونُ المختلفَ البعيد، أي من خارجِ أسوارِ ثقافتنا، وقد يكونُ المختلفَ القريب الذي هو جزءُ منا، فيكون من داخلِ المنظومةِ الثقافية، بمعنى أن الثقافةَ تصبحُ ثقافاتٍ، والرؤيةُ تصبح مجموعةَ رؤى ومذاهبَ وقراءاتِ.
نقدُ الآخر والحوارُ معه جزءُ أصيلٌ في ثقافتنا، فهو مبدأٌ شرعيٌ وأسلوبٌ حضاريٌ (وجادلهمْ بالتي هيَ أحسن). والجدلُ هنا هو الجدلُ المنتجُ الذي يقودُ للاقترابِ من الحقائق، وفق منظومةٍ ذهنيةٍ وعقليةٍ تستند إلى منهجيةِ النقدِ، لا غوغائيةَ المدافعةِ والرفضِ والهجومِ على الخصمِ والهروبِ دائماً إلى الأمام.
نقدُ الآخرِ من الداخلِ ولأجل الداخلِ، هو المعولُ عليه في بناءِ مرجعيةٍ حوارٍ تتناولُ القضايا الأكثرَ أهميةً وإلحاحاً، فلا أهميةَ كبرى للحوارِ مع الخارجِ طالما لم تتعززُ فرص الحوارِ المنتجِ والفعالِ مع الآخر في الداخلِ. كما أن أرضيةَ الحوار ستكونُ ممهدةً، لأن القاعدةَ التي تنطلقُ منها آليةُ الحوارِ أو النقدِ يمكن الاتفاقُ عليها. فالثابتُ الديني أو الوطني هو القاعدةُ، على أن هذا الثابتَ يجب أن يكون بحدودِ الثابت، لا بحدودِ الاجتهاداتِ، أو الآراءِ التي ربما تنطلقُ من هذا الثابت لكنها تبقى في دائرةِ الرأيِ وهذه قضية مهمة وأساسية .. فلو تمَ الاتفاق حد التطابق لم يكن هناك داعٍ للحوارِ من الأساس، فلا حوارَ بين متشابهين أو متفقين. الحوارُ بين المختلفين في سبيلِ إظهارِ قيمةِ أخرى لا تظهرُ عبر التوافقِ الكامل، ولكن تظهرُ عبرَ تباين الرؤى وتعددِ وجهاتِ النظر.
نقدُ الآخر ليس من أجلِ تسجيلِ نقاطٍ في طريق تأكيدِ المواقف، وإلا تحولَ إلى سجالٍ نقديٍ لا نهاية له، وحّول الفكرة من حالة النقدِ في سلمِ الصعود لاكتشاف الخللِ وتصحيحِ المسار إلى مجردِ حالةِ جدليةٍ سجاليةٍ تتحركُ بين طرفين أو فريقين دون تحقيقِ نقاطٍ في طريق التأثير الايجابي. كما أن النقدَ يمكنُ أن يضيفَ قيمةً وحيويةً للمجتمعاتِ في حالِ انتقالهِ من ممارسةٍ نخبويةٍ إلى حالةِ تأثيرٍ اجتماعيٍ يكشفُ عن إمكانيةِ بناءِ مشروعاتٍ تخترقُ تراكمَ الأزماتِ.
أما التعدديةُ، فهي من طبيعةِ الحياةِ، ومن شروطِ البقاءِ، وسنةٌ طبيعيةٌ من سننِ الكونِ ضاربة بعمق في تجربةِ البشريةِ (ولو شاءَ اللهُ لجعلَ الناسَ أمةً واحدة). ولذا من المهمَ دائماً إدراكُ أن التعدديةَ سمةٌ كونيةٌ، وطبيعةٌ تطالُ البشرَ والحجرَ والنباتَ والأحياء. كما تطالُ الأفكارَ والرؤى، وهي صناعةٌ عقليةٌ اختصَ اللهُ بها الإنسانَ وحده. المعوّل عليه أن تتحولَ ثقافةُ الاختلافِ إلى عاملِ بناءِ لا عامل هدمِ، عَبر التأسيسِ على ثقافةِ تؤمنُ بأن الاختلافَ عنصرُ قوةٍ لا عنصر تقويضٍ، طالما تم في أجواء سلميةٍ، وعبر حالةِ تحسمُها آليات يمكنُ التوافقَ حولها.
أما في منهجِ الحوار، فيمكن إيرادُ عدةِ نقاطٍ ربما تشكلُ قواعدَ عامة تخدمُ عمليةَ النقدِ وتساهمُ في تحقيقِ أهدافِ الحوار ومنها: الالتزامُ بالمعاني التي لا تقدحُ في عقيدةِ أو انتماءٍ على قاعدةِ شرط المواطنة، وعلى قاعدةِ هدفِ النقد أو الحوار. فلا يفسدُ الحوارَ سوى إخراج الآخرِ من حيز الاختلافِ حول الأفكارِ أو الاجتهاداتِ أو الآراء إلى حيز القدح في العقيدة أو الانتماء. ولنا في هذا الكم الكبير من حوارات تستهدف عقيدة الآخر وانتمائه لم تفرز سوى حالة اصطفاف مستمر ونفور متراكم واستدعاء أدبيات لم تكن ولن تكون قادرة على تحقيق أي هدف سوى استدعاء الضغائن والأحقاد والتوتر وحشد حالة تأزم تحت شعار الحوار.
الأمر الآخر تحديدُ قضيةِ الحوار، فلا يضيعُ قيمةَ الحوار والنقد إلا العملُ في فضاءِ بلا حدود، والقفزُ من علاقةِ إلى أخرى، والبناء على منظوماتِ ذهنيةٍ من أجلِ افحام الآخرِ أو إرباكه. فكثير من الحوار والجدل النقدي هو تشتيت لفكرة البقاء حول المعنى والفكرة الأساسية ولذا تبدو بعض الحوارات مجرد تسجيل نقاط في مرمى الخصم وبكل الطرق والوسائل الممكنة واستدعاء قضايا ومسائل لا علاقة لها بقضية الحوار أصلا.
ضبابية النقد وتشتيت محاوره تضيعُ الفكرةَ الأساسية. فالرسالةُ النقديةُ قيمةٌ مركزيةٌ في عمليةِ الحوار والنقد، ويجبُ العودةُ إليها في كلِ مرحلةٍ حتى لا يتمَ تشتيتُ الحوارِ لصالحِ عناصر لا تخدمُ قضيةَ الحوار.
قد تكون الحياديةُ في الحوار غير ممكنةٍ لأن الإنسانَ بطبعهِ لن يكونَ محايداً في الانتصارِ لثقافتهِ والمنظومةِ الذهنية التي يؤمنُ بها، إلا أن الموضوعيةَ قيمةٌ أساسيةٌ في العمليةِ النقدية، وهي تستهدفُ احترامَ الحقائقِ والوقوف عندها، والنظرَ في الايجابياتِ والسلبياتِ دون غبنٍ أو تجاوزٍ لحق الايجابي على حسابِ السلبي، كما تقتضي الموضوعيةُ التوقفَ عند الدليلِ والبرهانِ والشواهد. كما أن الاعتراف للآخر بما يقدمُ من عناصر تفيدُ حالةَ حوار أو تثري حالة نقدية، عنصر أساسي تجاهله لا يعني سوى الانحيازِ والتعصبِ والإفراطِ والتجاوزِ أحيانا. وعدالة النقدِ تقتضي الإنصافَ وعدمَ الكيل بمكيالين، أو التغاضي عن أخطاءِ كبرى لطرفٍ مقابلَ النقدِ اللاذع والقاسيِ لطرفٍ آخر، وهذا لا يعني سوى الانحيازيةِ والازدواجيةِ مما يفقد النقدَ مشروعيتَه وقيمتَه.
لا يفسدُ تحقيقَ أهداف النقد والحوار أكثرُ من تصفيةِ الحسابات تحت شعارِ الحوار أو النقدِ. ومما يلاحظُ أن بعضَ الاختلافِ في الرأي قد يتحول إلى مباراةٍ في الهجوم الشخصي، والابتعادِ عن الموضوعيةِ، والتركيزِ على تجريحِ الآخر، وإهانتهِ وتسفيهِ مقولتهِ حيث يضيعُ جوهرُ القضية.
ومن عوائق الحوار أو النقد يأتي العائق النفسي ليشكل حالة هروب من مواجهة أي عملية نقدية، ومن مظاهره الغرورُ والمكابرةُ والقلق من جرح الذات، وربما عدمَ الثقةِ بها، ولذلك يحجمُ كثيرون عن قبولِ النقد أو حتى القبول بمبدأ الحوار. كما ان العائق الثقافي يسهم في تركيز الأفكار الجاهزة ويوسع رقعة المسلمات ويراكم المخزون الذهني الذي أخذَ صورةً نمطيةً حاكمةً تجاه الآخر، ويتخذُ التذرع بالقلقِ على الهوية عنواناً بارزاً في هذا الشأن.